لماذا تطلب الأمر تجويع الفلسطينيين حتى يعترف الكثير أخيرًا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة؟

أغسطس 24, 2025

بقلم: مريم جمشيدي :

كما يعلم كل من يدرس «جريمة الجرائم»، فالإبادة الجماعية عملية وليست حدثًا منفردًا. وبالنسبة لبعض المنظمات غير الحكومية والسياسيين وشخصيات عامة أخرى، كان الوصول إلى خلاصة مفادها أنّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين «عملية» أيضًا. لقد استغرق الأمر شهورًا، وأحيانًا ما يناهز عامين، ليعترف بعضهم بأن إسرائيل انتهكت اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

وقد كان عاملٌ واحدٌ حاسمًا في دفع هذه الاعترافات: «التجويع»، أي تجويع إسرائيل المتعمَّد لـ2.1 مليون فلسطيني يسكنون هذا الشريط الصغير شديد الاكتظاظ من الأرض.

كثّفت إسرائيل استخدامَها المتجذِّر للتجويع سلاحًا في الحرب على غزة مباشرةً بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبعد قرابة ثلاثةٍ وعشرين شهرًا، جلب مشروعُ التجويع هذا مجاعةً واسعة النطاق ومستمرة إلى القطاع، مع وفاة أكثر من 200 شخص، من بينهم أكثر من 100 طفل، بسبب الجوع منذ 7 أكتوبر. وقد وقع 61٪ من تلك الوفيات منذ 20 يوليو/تموز 2025. أما الوفيات المرتبطة بسوء التغذية والأمراض الناجمة عنه فهي أعلى بكثير.

لكن لماذا كان التجويع محوريًا إلى هذا الحد مقارنةً بفظائع إسرائيل الأخرى التي جلبت موتًا ودمارًا أكبر لغزة؟ المفارقة أنّ نزع الإنسانية عن الفلسطينيين — وهو ما لا يزال يمنع بعضهم حتى الآن من الاعتراف بالإبادة — يفسِّر لماذا أدّى التجويع هذا الدور الحاسم في توصيف أفعال إسرائيل.

رؤية الإبادة في التجويع

منذ 7 أكتوبر، منعت إسرائيل كليًا أو جزئيًا دخول المساعدات — بما فيها الغذاء والماء — إلى غزة، ما دفع الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية وخبراء آخرين إلى دقّ نواقيس الخطر مرارًا بشأن تمدُّد المجاعة في القطاع. وقد فهم كثير من الخبراء والجهات أن ممارسات التجويع تلك جزءٌ مهم من الخطة الإبادية الإسرائيلية. لكن بالنسبة لبعض الأفراد والمنظمات البارزين، كانت سياسات التجويع الإسرائيلية الدليلَ الأهم — إن لم يكن الحصري — على وقوع الإبادة في غزة.

فعلى سبيل المثال، كان التجويع حاسمًا في إقناع أرييه نايير، المؤسِّس المشارك لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» ومديرها التنفيذي السابق، بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة. ففي 6 يونيو/حزيران 2024 كتب نايير مقالة في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بعنوان «هل ترتكب إسرائيل إبادة جماعية؟» يروي فيها «صحوة» موقفه.

وقد نُشرت تلك المقالة بعد نحو سبعة أشهر تمامًا من بدء الهجمة الإبادية، وبعد أسبوع من تقدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أكثر من 36 ألف وفاة و82 ألف إصابة في غزة نتيجة مباشرة للهجمات العسكرية الإسرائيلية. كما جاءت عقب ثلاثة أوامر بتدابير مؤقتة من محكمة العدل الدولية في قضية إبادة رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. وقد خلصت تلك التدابير الثلاثة، الصادرة بين يناير/كانون الثاني ومايو/أيار 2024، إلى وجود خطرٍ معقولٍ بأن إسرائيل تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية استنادًا إلى طيف واسع من الأدلة، منها — وليس حصرًا — حصارُها للقطاع.

ومع ذلك، لم يكن لإيمان نايير المستجدّ بوقوع الإبادة علاقةٌ بقرارات محكمة العدل الدولية ولا بأيٍّ من الوفيات والإصابات المروِّعة التي شهدتها غزة في الأشهر السبعة السابقة؛ بل صرّح بأن سياسات إسرائيل في التجويع هي التي أقنعته بأن الإبادة تتكشّف. إذ كتب:

«حين قدّمت جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية اتّهامَها بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، لم أنضمّ إلى بعض زملائي في حركة حقوق الإنسان الدولية في تأييد التهمة. لقد أقلقني بشدّة قصفُ إسرائيل، ولا سيّما استخدامها المتكرر — في مناطق مكتظة — لقنابل بوزن 500 و2000 رطل… التي كانت تقتل أعدادًا كبيرة من المدنيين غير المقاتلين… مثل هذه الأسلحة غير ملائمة بوضوح لتلك الظروف. ومع ذلك لم أقتنع بأن ذلك يشكّل إبادة جماعية…
أنا الآن مقتنع بأن إسرائيل منخرطةٌ في إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. وما غيّر رأيي هو سياستها المستمرة في عرقلة دخول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم.»

إذًا، لم تكن أعدادُ المدنيين الهائلة التي قتلتها إسرائيل باستخدام أسلحةٍ «عشوائية» حتى بتوصيف نايير — هي ما بدّل قناعته؛ بل كان امتناعُ إسرائيل عن السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة — ولا سيّما الغذاء والماء — هو الدليل الحصري على خطتها الإبادية.

وقبيل نشر مقالة نايير بقليل، قدّم كريم خان، مدّعي المحكمة الجنائية الدولية، طلباتٍ لإصدار مذكّرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت. وهنا أيضًا كانت أفعال التجويع حاسمة. فاستنادًا إلى الأدلة المتاحة علنًا، تدور مذكّرات التوقيف بحقّ نتنياهو وغانت — التي أصدرتها المحكمة لاحقًا — حول التجويع والجرائم القائمة عليه. فقد اتّهم المدّعي العام في طلبه غالانت ونتنياهو بارتكاب جريمة «الإبادة (الإفناء)» استنادًا إلى سياسات التجويع. وهذه الجريمة وثيقة الصلة بجريمة الإبادة الجماعية. وعلى غرار نايير، كان التجويعَ حاسمًا — لدى المدّعي العام — في إثبات جريمة الإبادة (الإفناء)، وبالقياس، الإبادةِ الجماعية.

وكان التجويع أيضًا محوريًا في تحليل «هيومن رايتس ووتش»، المنظمة التي ساهم نايير في تأسيسها قبل قرابة خمسين عامًا. ففي ديسمبر/كانون الأول 2024 أصدرت المنظمة تقريرًا خلص إلى أنّ إسرائيل ترتكب «أفعالًا إباديّة». ورغم أنّ التقرير توقّف دون الجزم بتوافر نيّة الإبادة الجماعية، فقد بُني هذا الاستنتاج على الجهد المتعمّد لحرمان غزة من المياه الصالحة للشرب.

ومنذ إطلاق أحدث حصار لها في 2 مارس/آذار 2025، تُدان إسرائيل على نطاق واسع لإطلاقها تجويعًا ذا طابعٍ إباديّ في القطاع. وبينما يُقتل فلسطينيون يائسون رميًا بالرصاص أثناء انتظارهم المساعدات في «حقل القتل» المعروف باسم «مؤسسة غزة الإنسانية»، ومع تحذير وكالات الأمم المتحدة من اجتياز عتباتٍ حرجة للمجاعة، بلغ بعض أوفى حلفاء إسرائيل نقطةَ الانكسار.

ومن هؤلاء الحلفاء الكاتبُ الإسرائيلي البارز دافيد غروسمان. ففي مطلع أغسطس/آب أعلن أنّه — أخيرًا — بات مستعدًا لوصف أفعال إسرائيل في غزة بأنها «إبادية». وإلى جانب تصريحاتٍ تُلقي باللائمة على الفلسطينيين في غزة في ما آلت إليه أوضاعُهم، وتؤكد أن «حماس» أيضًا «مسؤولةٌ عن… الفظائع التي نشهدها»، وتشدّد على مدى «ألمه الشخصي» من هذا الإدراك، اعترف غروسمان بأن سياسات التجويع الإسرائيلية أثبتت، في نظره، وقوع الإبادة. واستنادًا إلى مقابلة غروسمان، أقرّ جيريمي بن عامي، رئيس منظمة «جي ستريت» الصهيونية الليبرالية، بعد أيام قليلة، بأن إسرائيل على الأرجح ترتكب إبادة جماعية في غزة.

«براءة» الجائعين

يلتقط أرييه نايير في مقالته ما يحرّك — جزئيًا على الأقل — هذا التركيز على التجويع. إذ يقول: «إن عرقلة المساعدات الإنسانية يُرجَّح ألّا تؤثّر مباشرةً في مقاتلي حماس. فحتى في ظروف المجاعة، يجدُ الرجالُ الحاملون السلاح وسيلةً لإطعام أنفسهم. الذين لا يتحمّلون أي مسؤولية عن جرائم حماس هم الذين يعانون أكثر».

«الذين لا يتحمّلون أيَّ مسؤولية»…

في كتابه الجديد «الضحايا المثاليون وسياسات الاستعطاف»، يلتقط الكاتب والشاعر الفلسطيني محمد الكرد الأثرَ الخطابي لهذا التأطير. إذ يكتب: «لسنا — كفلسطينيين — بشرًا تلقائيًا بحكم كوننا بشرًا؛ بل يُعاد تأنسنُنا بحكم قربنا من البراءة…». ويتابع: «هذا «التأنسن» يصرف التدقيقَ النقدي عن المستعمِر إلى المستعمَر، فيحجب الظلم الجوهري للاستعمار، وبالتالي يحمي المشروع الاستعماري. ومن خلال إساءة توجيه البؤرة، يُوحي المدافعون بأن على المقهورين أن يبرهنوا أولًا — وقبل كل شيء — على استحقاقهم للحرية والكرامة. وإلا فسيغدو الاحتلالُ والإخضاعُ ووحشيةُ الشرطة والتهجيرُ والمراقبةُ و«الإعدامات خارج القانون» مبرَّرةً أو حتى ضرورية».

تنطبق ملاحظات الكرد على كثير من السرديات التي تركّز على التجويع في توصيف إبادة إسرائيل. فلكي تكون ضحيةَ إبادة — كفلسطيني — ينبغي أن تكون «بريئًا». ولكي تكون بريئًا، ينبغي ألّا تكون «مسؤولًا»: لا أن تنخرط في مقاومة، ولا أن تتعاطف معها، ولا أن تكون قريبًا منها، ولا أن تحاول فعلًا الدفاع عن وطنك أو حتى أن تكون لديك نيّة أو قدرة على ذلك. ينبغي أن تكون — بعبارة الكرد — «مطواعًا منزوع الأنياب». وإلا فإن «إبادتك» ستكون «مقبولةً أو ضرورية».

المستشفيات التي قد تُؤوي «مقاتلي حماس» المزعومين ليست «بريئةً» بما يكفي. وسيارات الإسعاف والمسعفون العاملون ضمن الذراع الخدمية المدنية لحكومة غزة — التي تُديرها الذراعُ السياسية لحماس — «ملطَّخون». وأفراد العائلة، أو من يُزعَم أنهم يقطنون المبنى نفسه مع أفرادٍ من حماس، ليسوا «أبرياء» بما يكفي أيضًا.

وحتى حين لا وجودَ لأدلةٍ حقيقية على أي صلةٍ بحماس، تكفي المزاعمُ وحدَها لتجريد الفلسطينيين من شرط السكون والخضوع، شرطِ «البراءة». ونتيجةً لذلك، لا يبدو الاستهدافُ المنهجي للمنازل والمدارس والمستشفيات ودور العبادة، وقتلُ عشرات الآلاف من المدنيين — رجالًا ونساءً وأطفالًا — كافيًا لإقناع البعض بتهمة الإبادة؛ إذ يمكن دائمًا افتراضُ «تربُّص» حماس في مكانٍ ما، بما يَطعن في «سكون» المستهدَفين ويجعل قتلَهم مباحًا لا محظورًا.

ومن العسير، مع ذلك، تلويثُ «براءة» الجائعين. لأن التجويع بطيءٌ وطويل. ولأنه ليس مكانًا بل حالة. ولأن الإنسان، حين يبلغُ حدَّ الجوع، يكون قد غدا مطواعًا خاضعًا. ولأن الأكثر هشاشة — الصغارَ، وكبارَ السنّ، والمرضى، والضعفاء — هم الأشدُّ تأثرًا بالتجويع، كما يشير نايير. ولأنهم ضعفاء، فهم الأَوْلى بالحماية بموجب القانون الدولي. ولأنهم ضعفاء، فهم لا يشكلون عقبةً تُذكر أمام المشروع الاستعماري الإسرائيلي. وبوصفهم «ضحايا مثاليين»، يُؤذَن لهم — بضعفهم — بالبقاء.

إن الحظر القانوني على الإبادة الجماعية لا يميّز بين مقاتلين وغير مقاتلين، بين جنودٍ وأطفال. ومن حيث المبدأ، يمكن ارتكابُ إبادةٍ جماعية ضد جيش بلدٍ آخر ما دمت ترتكب فعلًا من أفعال الإبادة — مثل الحرمان المتعمد للسكان من الطعام والماء — وتقترن به النيّةُ الإبادية الصحيحة. لكن في الممارسة، يرى بعضُهم أن الإبادة «مقبولة» إذا ارتُكبت ضد فئاتٍ بعينها من السكان. وكثيرٌ من الذين يعترفون بأن إسرائيل ترتكب إبادة — حصرًا لأن المجاعة قد حلّت — يشاركون ضمنًا هذا الاعتقاد، علموا بذلك أم لم يعلموا.

وعلى مدى العقود المنصرمة، أصبح المجتمع الدولي أعلى صوتًا في ما يتعلق بالأذى اللاحق بالمدنيين أثناء النزاعات المسلحة. وقد ردّت بعضُ الحكومات باستخدام التجويع أداةً لتحقيق الغايات نفسها، من دون الخشية من القدر ذاته من النقد. وفي غزة انعكس هذا الاتجاه بصورةٍ دراماتيكية. وكما يلاحظ محمد الكرد، «يُحشَر الفلسطينيون في ثنائيةٍ زائفةٍ وصارمة: إمّا ضحايا أو إرهابيون». وبالنسبة لكثيرين ممّن يرون التجويع محورًا في إبادة إسرائيل، يظلّ الوجود الفلسطيني منقسمًا إلى هاتين الفئتين — «إرهابي» و«ضحية» — بما يفصل بين مَن يجوز إفناؤهم ومَن ينبغي حمايتهم؛ فتغدو فظاعةُ التجويع لا تُحتمل، بينما لا يبدو قصفُ المدنيين «إبادِيًّا» بما يكفي.

نشر المقال في موقع مونديوس وتمت ترجمته من قبل الخبر اليمني

The post لماذا تطلب الأمر تجويع الفلسطينيين حتى يعترف الكثير أخيرًا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة؟ first appeared on الخبر اليمني.

الذهاب إلى المصدر

قد يعجبك ايضا