سلام أم صفقة؟ كيف تتقاسم القوى العظمى معادن الكونغو النادرة؟

يونيو 28, 2025

تعرضت جمهورية الكونغو الديمقراطية عبر تاريخها الحديث لواحدة من أبشع مآسي الاستعمار والصراع في أفريقيا. منذ الحقبة الاستعمارية البلجيكية في أواخر القرن التاسع عشر، عانى شعب الكونغو من إبادة جماعية غير معلنة خلفت ملايين الضحايا، حيث مارس المستعمرون الأوروبيون أساليب وحشية في استغلال ثروات البلاد الطبيعيّة. وبعد الاستقلال، استمرت معاناة الكونغوليين في سلسلة من الحروب المدمرة – لا سيما صراع الكونغو ورواندا – التي غذّتها مطامع داخلية وخارجية للسيطرة على ما تزخر به أرض الكونغو من ثروات ومعادن نادرة. وفي كل مرحلة من هذه المراحل، كان للدول والشركات الغربية دور محوري: من استعمار دموي مباشر، إلى دعم أنظمة فاسدة وحروب بالوكالة، وصولاً إلى تدخلات معاصرة تدّعي إحلال السلام فيما تتخفى وراءها أطماع اقتصادية. يقف الضحايا الحقيقيون – وهم الملايين من أبناء الكونغو – شاهدين على قرن من النهب والاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة، بينما تُنهب ثروات بلادهم لتعظيم أرباح قوى بعيدة عن معاناتهم.

الإبادة الجماعية تحت الاستعمار البلجيكي
فرض الاستعمار البلجيكي بقيادة الملك ليوبولد الثاني (1885–1908) نظامًا استغلاليًا فظيعًا في الكونغو الحرة أسفر عن انهيار سكاني كارثي. فقد أجبر السكان على جمع المطاط الطبيعي بكميات محددة لكل قرية، تحت طائلة العقاب الجماعي. كان جنود قوة الدولة العامة (Force Publique) – ومعظمهم مجندون أفارقة يعملون بإمرة ضباط بيض – ينفذون هذه السياسات بوحشية مفرطة. فإذا قصّرت أي قرية في توريد حصتها من المطاط، تعرض أهلها لهجمات انتقامية شملت أخذ الرهائن وإعدامهم ميدانيًا، فضلًا عن إحراق الأكواخ والقرى بالكامل كوسيلة لترهيب الآخرين. ولم يكتفِ المستعمرون بذلك، بل لجأوا إلى ممارسة مروّعة اشتهرت بها تلك الفترة: قطع أيدي الضحايا. كان يُطلب من الجنود البلجيكيين ومساعديهم أن يقدموا يدًا مبتورة عن كل رصاصة يتم إطلاقها، كدليل على قتلهم لمن “عصوا الأوامر”. وهكذا أصبحت سلال الأيادي المقطوعة الموضوعة تحت أقدام الضباط الأوروبيين رمزًا مرعبًا لحكم الرعب في الكونغو الحرة. بل تحوّل قطع الأيدي إلى عملة بحد ذاتها: يستعيض بها بعض الجنود عن الحصص المطلوبة من المطاط إذا عجزوا عن توفيرها، ويتقاضون بموجبها مكافآت من رؤسائهم. في حالات كثيرة، كان الجنود يقطعون أيدي الأطفال والنساء وهم أحياء – أحيانًا دون قتلهم – لمجرد تحقيق الأعداد المطلوبة.

إن بشاعة الفظائع في الكونغو البلجيكية تكمن أيضًا في أن منفذيها المباشرين كانوا غالبًا من الأهالي الأفارقة أنفسهم، بعد أن تم تجنيدهم قسرًا منذ صغرهم للعمل كجنود في خدمة الملك البلجيكي. هؤلاء المجنّدون، الساعون لإرضاء سادتهم المستعمرين، نفّذوا أوامر قطع الأيادي والأطراف وحتى الرؤوس بحق أبناء جلدتهم لصالح البرجوازية الإمبريالية الأوروبية. وفي ظل الفقر المدقع والانهيار الاجتماعي الذي خلّفه الاستعمار، انحدر الوضع إلى درك أشد ظلمة؛ إذ سُجلت حالات تقشعر لها الأبدان عن أكل أجزاء من جثث الضحايا – كالأيدي أو الأقدام – من قبل بعض الجنود أو حلفائهم، وذلك بتغاضي من الإدارة الاستعمارية. كذلك انتشرت ممارسة جلد السكان بالسياط (الشافوت) حتى الموت، وارتُكبت حملات إحراق القرى بالكامل كسياسة عقاب جماعي لبث الرعب في النفوس. وقد تسببت أعمال السخرة الشاقة وسوء المعاملة وانتشار الأمراض في موت أعداد هائلة من الكونغوليين؛ حيث عمّت أوبئة فتاكة كالجدري ومرض النوم (التريبانوسوما) قضت على مئات الآلاف من السكان. وتشير تقديرات تاريخية إلى أن حصيلة ضحايا تلك الحقبة الاستعمارية قد بلغت عدّة ملايين من أبناء الكونغو – إذ يُقدّرها بعض الباحثين بما بين 5 إلى 10 ملايين قتيل خلال حكم ليوبولد الثاني – مما جعل ما جرى في الكونغو يُوصف بأنه إبادة جماعية بصمت ارتُكبت تحت ستار “التجارة الحرة” و”نشر الحضارة”.

حروب الكونغو الحديثة وتدخل رواندا
لم تنتهِ معاناة الكونغوليين بخروج البلجيكيين واستقلال البلاد عام 1960؛ إذ سرعان ما سقطت الدولة الفتية في قبضة الحرب الباردة ومؤامراتها. دعمت الولايات المتحدة وبلجيكا الإطاحة برئيس الوزراء المنتخب باتريس لومومبا (الذي اغتيل عام 1961) وساهمتا في تمكين رجلها الموالي جوزيف موبوتو من السلطة. حكم موبوتو – الذي تلقى دعمًا غربيًا سخيًا – الكونغو (التي سماها “زائير”) بقبضة من حديد لعقود، وأسس نظامًا ديكتاتوريًا قائمًا على الفساد ونهب الموارد لإثراء الحاشية على حساب الشعب. وقد تمتّع هذا النظام بحماية الغرب طالما أنه خدم مصالحهم، مما حرم الكونغوليين من فرصة بناء دولة عادلة بعد الاستعمار.

في أواخر التسعينيات، انفجرت الأوضاع من جديد فيما سُمّي حروب الكونغو (1996–2003)، والتي تورطت فيها عدة دول إفريقية مجاورة وعلى رأسها رواندا وأوغندا، فضلًا عن عشرات المجموعات المسلحة المحلية. عُرفت هذه الصراعات بأنها “حرب العالم الإفريقية الأولى” نظرًا لاتساع نطاقها وهول خسائرها البشرية. فقد قُتل فيها ما يُقدر بملايين البشر ونزح مثلهم هربًا من القتال. وقد كان الدافع الخفي وراء جزء كبير من هذا الصراع هو الصراع على الثروات المعدنية الهائلة في أراضي الكونغو، من ذهب وألماس وكولتان وقصدير ونحاس وغيرها. خلال تلك السنوات الدامية، لعبت بعض القوى الغربية دورًا ملتبسًا؛ حيث غضّت الطرف عن تدخلات حلفائها الإقليميين في الكونغو بل ودعمت بعضهم ضمنيًا، في الوقت الذي تدفقت فيه المعادن الثمينة المنهوبة إلى الأسواق العالمية عبر شركات متعددة الجنسيات. تقرير أممي عام 2002 كشف ضلوع عشرات الشركات الغربية في شبكات نهب موارد الكونغو بطرق غير شرعية. وبحسب التقرير، فإن 85 شركة متعددة الجنسيات – مقرّها أوروبا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا – انتهكت المبادئ الأخلاقية بتعاملها مع شبكات إجرامية تورطت في نهب معادن الكونغو خلال الحرب. ومن بين هذه الشركات المذكورة في التقرير أسماء معروفة مثل بنك باركليز وشركة دي بيرز للماس وعملاق التعدين أنجلو أمريكن وغيرها. حتى بعض البنوك الغربية العريقة اتُّهمت بتسهيل تمرير الأموال المتأتية من تلك التجارة الدموية. وقد رحّب خبراء حقوقيون آنذاك بتسليط الضوء على مسؤولية هذه الشركات، مؤكّدين أن الشركات المتعددة الجنسيات تتحمل جزءًا كبيرًا من اللوم لأنها “تربّحت من هذا العمل القذر أكثر من المتحاربين أنفسهم”.

استخدمت رواندا بشكل خاص ذريعة ملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية لعام 1994 (عناصر ميليشيات الهوتو الفارّة) للتوغّل عسكريًا في شرق الكونغو. لكن تقارير الأمم المتحدة وغيرها أكدت أن هدف رواندا الفعلي تعدّى مجرد الأمن إلى السطو على المعادن. دعمت رواندا ميليشيات مثل حركة 23 مارس (M23) للسيطرة على مناطق التعدين، ثم قامت بتصدير المعادن النفيسة عبر أراضيها مدعيةً أنها من إنتاجها. وقد لوحظ ارتفاع كبير في صادرات رواندا من الذهب والمعادن خلال فترة الحرب يفوق بكثير إمكاناتها المحدودة – ما يعني أنه نتاج نهب موارد الكونغو. على سبيل المثال، في عام 2023 أعلنت الإمارات العربية المتحدة استيراد ذهب بقيمة 885 مليون دولار من رواندا (زيادة بنسبة 75% عن متوسط السنوات السابقة)، رغم أن رواندا ليست منتجًا كبيرًا للذهب. هذه المفارقة تؤكد أن جزءًا كبيرًا من صادرات رواندا المعدنية كانت مسروقة من الكونغو وتُمرّر عبر شبكات تهريب إقليمية بتواطؤ رسمي. وقد وصف أحد الخبراء تضاعف عائدات صادرات رواندا من المعادن خلال عامين فقط – لتتجاوز المليار دولار سنويًا – بأنه مؤشر واضح على تدفق موارد الكونغو المنهوبة إليها.

بهذا المعنى، كانت رواندا وأوغندا تلعبان دور الوكيل الذي ينقل ثروات الكونغو المنهوبة إلى الأسواق العالمية، وهي الثروات التي استفادت منها في النهاية شركات عالمية في الغرب وآسيا. وقد قدّر تقرير دولي أن شبكة النهب هذه أصبحت اقتصاد حرب ذاتي التمويل يطيل أمد الصراع عمدًا، إذ وجدت أطراف عديدة مصلحة في استمرار الفوضى لتحقيق أرباح طائلة من التعدين غير المشروع. خلفت هذه الحروب مآسي إنسانية كبرى للشعب الكونغولي: من قتل جماعي ونزوح بالملايين، إلى انتشار الاغتصاب كسلاح حرب (خصوصًا في إقليم كيفو) وتجنيد الأطفال وتفشي المجاعة والأوبئة. وبينما كان الكونغوليون يعانون الويلات، كانت شبكات دولية من المستفيدين تجني المكاسب – في مشهد يذكّر بشكل مأساوي بمرحلة الاستعمار الأولى، وإن اختلفت الأوجه والأساليب. وكما وصف محللون الواقع بمرارة: لم يكن هناك أبطالٌ في هذه القصة؛ فجميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية تتحمل قسطًا من المسؤولية عما حلّ بالكونغو – بما في ذلك القوى الغربية الكبرى التي إما تواطأت أو غضّت الطرف طالما أن مصالحها الاقتصادية مؤمّنة.

نهب الثروات والمعادن ودور الشركات الغربية
تُعدّ الكونغو من أغنى بلدان العالم بالموارد المعدنية الإستراتيجية. لكن المفارقة أن هذا الغنى الفاحش يقترن بفقر مدقع وعدم استقرار مزمن فيما يُعرف بـ”لعنة الموارد”. في حالة الكونغو، تجسّدت لعنة الموارد في أن الثروات الهائلة (من الكولتان المستخدم في الإلكترونيات، والكوبالت الضروري لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، إلى جانب الماس والذهب والنحاس واليورانيوم وغيرها) أصبحت مطمعًا للشركات العالمية والقوى الكبرى، مما أجّج الصراعات وأدامها. تشير الدراسات إلى أن إيرادات المعادن كانت الوقود المحرّك للصراع في الكونغو، حيث استُخدمت لتمويل أمراء الحرب وشراء ولاءات الميليشيات. وفي المقابل، دخلت شركات غربية عديدة على الخط للاستفادة من هذه الفوضى.

فخلال فترة الحرب الأهلية وما تلاها، أُبرمت صفقات مشبوهة وعقود سرية مكّنت كيانات أجنبية من الحصول على المعادن بأسعار بخسة مقابل إمداد أمراء الحرب بالمال والسلاح. ونتيجة لذلك، تدفقت كميات هائلة من الكولتان والتنتالوم والذهب إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية لتُستخدم في تصنيع الهواتف الذكية والحواسيب والسيارات وغيرها، دون أن ينعكس ذلك تنميةً على الكونغو وأهلها.

من الأمثلة الصارخة، تقرير الأمم المتحدة عام 2002 الذي سمّى 29 شخصية وشركة أجنبية متورطة مباشرة في النهب المنظّم لموارد الكونغو، ودعا إلى فرض عقوبات مالية عليها. كما اتُهمت شركات تعدين كبرى (مثل أنجلو أمريكن ودي بيرز وغيرهما) بالاستثمار في مناطق النزاع وتوقيع اتفاقيات مع أمراء الحرب لضمان استمرار تدفق المعادن الثمينة. إن بنية الاقتصاد العالمي وتشابك سلاسل التوريد جعلا من المستحيل عمليًا فصل المنتجات الاستهلاكية الحديثة عن مأساة الكونغو: فالهواتف الذكية والحواسيب والسيارات الكهربائية وحتى المعدات العسكرية الحديثة – جميعها تحتوي معادن نادرة مصدرها الكونغو جرى استخراج الكثير منها بظروف استعبادية وفي ظل نزاعات دموية.
وقد أفرز هذا النهب المنظّم عواقب مدمرة على الكونغو وشعبها. فبينما جنت نخب فاسدة في الداخل وعملاء شركات في الخارج المليارات، بقي المواطن الكونغولي يعاني الفقر وانعدام الخدمات الأساسية في أرض تزخر بثروة طبيعية هائلة. وساهمت عقود الاستغلال غير الشفافة في حرمان الخزينة العامة من عائدات قانونية مستحقة، عبر التهرب الضريبي وتفشي الفساد. كما أدّت ممارسات الشركات الأجنبية التي لا تخضع للمساءلة إلى تلويث البيئة وتدمير الغابات والتربة في مواقع التعدين، دون أي التزام بمعالجة الأضرار. أما الوجه الأكثر قتامة لهذا المشهد فهو الثمن البشري؛ إذ تم تهجير قرى بأكملها من أجل إفساح المجال للمناجم، واضطر عشرات الآلاف من الأطفال للعمل في المناجم الخطرة بحثًا عن لقمة العيش، وتعرّضت نساء وفتيات لاعتداءات جنسية ممنهجة في مناطق سيطرة الميليشيات كوسيلة لبسط النفوذ.
أبرز نتائج هذا النهب المنظّم يمكن تلخيصها فيما يلي:
* خسائر مالية للدولة: حرمان خزينة الكونغو من الإيرادات القانونية نتيجة تهريب المعادن وانعدام الشفافية، بحيث يذهب الجزء الأكبر من العائدات إلى جيوب الفاسدين ووكلائهم.
* كوارث بيئية: تلويث منهجي للبيئة وتدمير الغابات والتربة المحيطة بمواقع التعدين، دون أي إجراءات لمعالجة أو إصلاح الضرر.
* تهجير سكاني: اقتلاع مجتمعات محلية بكاملها من أراضيها لإفساح المجال أمام عمليات التنقيب والمناجم، مما يفاقم أزمة النزوح الداخلي.
* استغلال الأطفال والنساء: اضطرار عشرات الآلاف من الأطفال للعمل في ظروف قاسية داخل المناجم بدلاً من الدراسة، وتعرض النساء للعنف والاستعباد الجنسي على يد الجماعات المسلحة التي تسيطر على مناطق المناجم.
باختصار، تحوّل موردٌ نفيسٌ يفترض أن يكون رافعة تنمية للكونغو إلى مصدر نقمة جرّ عليها الفوضى والخراب.
“السلام مقابل المعادن”: الدور الأمريكي والمنافسة مع الصين
مع مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وفيما بدأ العالم يُدرك أهمية المعادن النادرة في الصناعات المستقبلية (كالسيارات الكهربائية والطاقة المتجددة)، عادت أنظار القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى الكونغو بشكل ملحوظ. رفعت واشنطن من مستوى انخراطها الدبلوماسي في أزمات منطقة البحيرات العظمى، ولكن بنهج مختلف هذه المرة؛ نهج وصفه مراقبون بأنه أكثر براغماتية أو “معاملاتي” يربط بين السياسة والاقتصاد. ففي عام 2025، توسطت إدارة الرئيس دونالد ترامب لإبرام اتفاق سلام تاريخي بين الكونغو ورواندا بهدف إنهاء النزاع المستعر في شرق الكونغو. ظاهريًا، بدت الخطوة كمسعى نبيل لإنهاء الحرب وإحلال السلام بين الجارتين بعد عقود من الصراع الدموي. لكن خلف الكواليس، برزت ملامح صفقة من نوع آخر دفعت منتقدين لوصف الاتفاق بأنه “سلام مقابل المعادن”.
وفق تقارير موثوقة، لم تكن واشنطن لتنجح في جمع الطرفين على طاولة المصالحة دون تقديم حوافز اقتصادية مغرية. فقد عرضت الكونغو برئاسة فيليكس تشيسكيدي على الأمريكيين امتيازات استثمارية مباشرة في قطاع المعادن الثمين لديها، مقابل ضغط الولايات المتحدة على رواندا لوقف دعم تمرد ميليشيا M23 في الشرق. وبالفعل، كشفت مصادر أن مفاوضات موازية جرت بالتزامن مع مباحثات وقف إطلاق النار، هدفت إلى إبرام اتفاقية أشمل بين واشنطن وكينشاسا تضمن تعزيز وصول الولايات المتحدة إلى معادن الكونغو الإستراتيجية. ولم تخفِ الإدارة الأمريكية أن من أهدافها أيضًا مجاراة النفوذ الصيني المتغلغل في قطاع التعدين الكونغولي.

فمن المعروف أن الشركات الصينية تهيمن على نسبة ضخمة من إنتاج الكوبالت في الكونغو (تُقدّر بأكثر من 80٪ من إجمالي الإنتاج)، إلى جانب استثمارات صينية كبيرة في النحاس والكولتان ضمن صفقات “موارد مقابل بنية تحتية” أبرمتها بكين مع كينشاسا خلال العقود الماضية. لذا رأت واشنطن في دفع رواندا والكونغو للتسوية فرصة لكسب موطئ قدم اقتصادي وكبح النفوذ الصيني في أحد أغنى ميادين المعادن في العالم.
لم تكن المؤشرات على هذا البعد الخفي للاتفاق شحيحة. فبحسب تصريحات مسؤولين، كان من المقرر أن يتزامن توقيع اتفاق السلام مع توقيع اتفاقيات تعدين ثنائية بمليارات الدولارات لصالح شركات أمريكية وغربية في الكونغو ورواندا. وأكد مَسعد بولوس – وهو مستشار الرئيس الأمريكي للملف الإفريقي – صراحةً أنه “تمت مراجعة عرض الكونغو حول اتفاق المعادن، ووافق الرئيس (ترامب) معي على المضي قدمًا في تطويره”. وفي تصريحه بعد لقائه مع تشيسكيدي في كينشاسا، قال بولوس: “ثقوا بأن الشركات الأمريكية ستعمل بشفافية وستحفز الاقتصاد المحلي. هذه استثمارات بمليارات الدولارات”. وهذا يعني أن رفع البنادق عن كاهل الكونغوليين كان مشروطًا برفع القيود عن شهية المستثمرين الغربيين في ثروات الكونغو. ولم يتردد الرئيس الأمريكي نفسه في الإعلان بفخر عن دوره في “صنع السلام” بين الكونغو ورواندا، مُصرّحًا بأن الاتفاق “سيجلب استثمارات أمريكية بمليارات الدولارات” إلى منطقة شرق الكونغو الغنية بالمعادن الحيوية للصناعات الحديثة. ومع هذا، سادت نبرة من التشكيك لدى المراقبين حيال هذه المبادرة؛ إذ اعتبرها البعض انطلاقة لـ”سباق استعمار جديد” على موارد أفريقيا تحت غطاء دبلوماسي. فقد تجنب البيان الرسمي الصادر عن واشنطن ذكر قطاع المعادن بصورة مباشرة، واكتفى بالتأكيد على “توسيع فرص التجارة والاستثمار بشفافية… بمساعدة الحكومة والمستثمرين الأمريكيين في سلاسل توريد المعادن وتطوير الطاقة الكهرومائية وإدارة المتنزهات الوطنية”. ورأى منتقدون في هذه اللغة العامة محاولة لإخفاء حقيقة الصفقة، معتبرين أن الهمّ الأول للوسطاء كان تقاسم الكعكة المعدنية لا غير.

من منظور أوسع، كشفت هذه المصالحة المدعومة أمريكيًا عن الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. فبعيدًا عن الخطاب المثالي حول نشر السلام والديمقراطية، بدا أن الدافع الإستراتيجي هو تأمين مصادر المعادن الحيوية للغرب وتأمين سلاسل التوريد، في مواجهة تنامي نفوذ الصين. وقد حذر محللون من أن يتحول هذا الاتفاق إلى أداة “للاستعمار الجديد”: أي بسط النفوذ عبر الاقتصاد بدلاً من الاحتلال العسكري. فكما كتب الزعيم الأفريقي كوامي نكروما محذرًا قبل عقود، إن جوهر الاستعمار الجديد هو أن تسيطر القوى الأجنبية على مقدرات البلدان النامية من خلال رأس المال والاستثمار بدلاً من الجيوش – وهذا بالضبط ما يُخشى أن يحدث في الكونغو مجددًا إذا لم تُضبط هذه الاتفاقيات بشفافية وعدالة. ولعل الموقف الصيني سيكون الاختبار الأبرز؛ إذ من المتوقع أن لا تقف بكين مكتوفة الأيدي وهي ترى منافستها تدخل بقوة إلى مجالٍ طالما اعتبرته ضمن نطاق نفوذها الاقتصادي. إن اشتداد التنافس بين واشنطن وبكين على معادن الكونغو قد يعود ببعض الفائدة على الكونغو إن أحسن قادتها استغلاله في تحقيق صفقات متوازنة، لكنه أيضًا قد يفتح الباب على مصراعيه لـ”اندفاع محموم” جديد أشبه بالسباق الاستعماري خلال القرن التاسع عشر – حيث تتنافس القوى الكبرى على الموارد دون اعتبار يُذكر لحقوق الشعوب.

الخاتمة: تعاطف مع الضحايا ودعوة إلى العدالة
في المحصلة، تُشكّل مأساة الكونغو نموذجًا صارخًا للطريقة التي تضافرت بها أطماع الاستعمار القديم مع مصالح الرأسمالية العالمية الحديثة لتنتج حلقةً مفرغةً من العنف والاستغلال. لقد دفع الشعب الكونغولي ثمنًا فادحًا عبر الأجيال – من الأيدي المبتورة تحت حكم ليوبولد، إلى المقابر الجماعية في حروب الألفية – وكل ذلك من أجل مطاطٍ وعاجٍ بالأمس، أو كولتان وكوبالت اليوم. وإذا كان هناك من درس يجب أن يتعلمه العالم من جراح الكونغو، فهو أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يقوم على المقايضات الخفية التي تُبقي مصالح الأقوياء أولوية على حساب المستضعفين. إن السلام الذي يستحقه الكونغوليون هو سلام يضع حدًا لعقود النهب والهيمنة، سلامٌ يُعيد لأبناء الكونغو حقهم في السيادة على مواردهم وفي جني ثمارها لتنمية بلدهم ورفاههم. وأقل ما يمكن أن يقدمه الغرب – الذي كان طرفًا تاريخيًا في هذه المأساة – هو دعم تطلعات الكونغوليين للشفافية والمساءلة وتعويض الضرر، بدلًا من اللهاث وراء عقود استخراج جديدة تُذكّرهم بماضيهم الأليم.

إن مشاهد الضحايا الكونغوليين، من أطفال فقدوا أطرافهم إلى أمهات ثكالى ومجتمعات مزقتها الحروب، يجب أن توقظ ضمير العالم. هؤلاء الضحايا يستحقون أكثر من كلمات الأسف؛ يستحقون عدالةً حقيقية تقطع دابر الاستعمار الجديد المموّه بالاستثمار والتعاون. فاستمرار التعامل مع الكونغو كمجرد خزان للثروات دون اعتبار لإنسانها هو استمرار للسلسلة نفسها من الانتهاكات ولكن بأسماء مختلفة. لقد آن الأوان لكسر هذه السلسلة، ولن يكون ذلك إلا عبر إرادة دولية صادقة تضع معاناة الإنسان فوق مطامع رأس المال. وإلى أن يتحقق ذلك، سيبقى صدى صرخات الألم والظلم في الكونغو – أرض المأساة والأمل – شاهدًا على مسؤولية الغرب والجميع في تصحيح هذا المسار، وتذكيرًا بأنه «لا سلام دون عدالة، ولا تنمية دون كرامة».

المصادر:
* Benoit Nyemba, Reuters: “By some estimates, killings, famine and disease caused the deaths of up to 10 million Congolese during just the first 23 years of Belgium’s rule… Villages that missed rubber collection quotas were notoriously made to provide severed hands instead.”
* Angela Thompsell, Ph.D., ThoughtCo: “The army enforced impossible rubber quotas through brutal methods… Soldiers were required to provide a hand for every bullet used to prove their deadly acts.”
* Angela Thompsell, Ph.D., ThoughtCo: “Officers and soldiers [of Force Publique]… accused of destroying villages, taking hostages, raping, torturing… Men who did not fulfill their quota were killed or mutilated… whole villages [were] eradicated… The iconic images… were the baskets full of smoked hands and the Congolese children who survived having a hand cut off.”
* Wikipedia: “The baskets of severed hands, set down at the feet of the European post commanders, became the symbol of the Congo Free State… They [hands] became a sort of currency… to make up for shortfalls in rubber quotas… soldiers were paid bonuses on the basis of how many hands they collected.”
* Wikipedia: “Free State officials… repeatedly turned a blind eye… to the ‘cannibal feasts’ celebrated by native soldiers… In various cases they even handed captives, including infants and old women, over to their soldiers or local allies, implicitly or even explicitly allowing them to kill and eat them.”
* Carole J.L. Collins, Foreign Policy in Focus: “Mobutu helped overthrow Patrice Lumumba… the U.S. and other Western powers encouraged Mobutu… In 1965 Mobutu, with CIA help, seized power in a coup.”
* Carole J.L. Collins, Foreign Policy in Focus: “Between 1962 and 1991, the U.S. directly supported Mobutu… with more than $1.03 billion in development aid and $227.4 million in military assistance… It even provided transport for foreign troops used to suppress [dissent].”
* BlackPast (Samuel Momodu): “Nine African countries… involved in the war… The war became the deadliest conflict since World War II. An estimated 5.4 million war-related deaths occurred and more than twice that number were displaced from their homes.”
* Rory Carroll, The Guardian: “An independent panel of experts… reported that 85 multinational companies based in Europe, the US and South Africa had violated ethical guidelines in dealing with criminal networks which have pillaged natural resources from [DRC]… The report named an additional 29 companies and 54 individuals… directly involved in the plunder and should be considered for financial restrictions.”
* Rory Carroll, The Guardian: “Dozens of multinationals including Barclays Bank, De Beers and Anglo American have been accused of facilitating the plunder… ‘The corporations must accept responsibility. They benefit more from this dirty business than those doing the digging and mining,’ said François Grignon of the International Crisis Group.”
* Rory Carroll, The Guardian: “Rwanda’s claim to have stayed in Congo to hunt the Hutu… was described as a cover for its army’s desire to strip minerals. The report even claimed that Rwanda had collaborated with its enemies… urging units to maintain good relations ‘with our Interahamwe and Mai-Mai brothers’ and ‘let them exploit the sub-soil for their survival’.”

The post سلام أم صفقة؟ كيف تتقاسم القوى العظمى معادن الكونغو النادرة؟ first appeared on الخبر اليمني.

الذهاب إلى المصدر

قد يعجبك ايضا